“أُصبت أنا وأمي بالكوليرا، نتيجة شرب مياه الصهاريج”، تقول بيان (25 عاماً)، من حي غويران جنوب مدينة الحسكة، الذي يعتمد غالبية سكانه وسكّان أحياء الحسكة شمال شرقي سوريا، على مياه الصهاريج الخاصة كمصدر بديل وأساسي للشرب.
الشابة بيان، وبعدما اشتدّ الألم في معدتها، وبدأت بمرحلة الإعياء والإسهال الشديدين في بداية العام 2023، لجأت وأمها التي تعاني من الأعراض نفسها الى مستشفى الشعب (الوطني سابقاً) الذي تديره الإدارة الذاتية (حكومة محلية لادارة الإقليم)، لعدم قدرتها على تحمّل تكاليف العلاج الباهظة في المستشفيات الخاصة، حيث شُخِّصت حالتها وأمها بالكوليرا، بعد فحوصات روتينية، وأُخضعا لنظام علاج مكوّن من أدوية ومصول طبّية.
بحسب منظمة الصحة العالمية، فإن الكوليرا عدوى حادة تسبب الإسهال وتنجم عن تناول الأطعمة أو شرب المياه الملوّثة، ولا تزال تشكّل تهديداً عالمياً للصحة العامة ومؤشراً إلى انعدام المساواة وغياب التنمية الاجتماعية.
تماثلت بيان وأمها للشفاء من الكوليرا بعد رحلة علاج دامت ثلاثة أشهر، وانتقالها من مستشفى الى آخر ومن مركز طبي الى آخر في المدينة، للحصول على أفضل علاج، بعدما تجرّعت مضادات حيوية وسيرومات كثيرة واعتمادها على المياه المعدنية للشرب، إلا أنها تشعر ببعض الآلام في المعدة بين حين وآخر، وتخشى الإصابة مجدداً قائلة: “نجوت من الموت بأعجوبة، الطبيب منعني من شرب مياه الصهاريج وأخبرني أنّها سبب إصابتي، أخشى أن أصاب مرة ثانية”.
انقطاع المياه هل هو السبب؟
يكشف هذا التحقيق عن أوجه متعددة لمعاناة يواجهها المدنيون في مدينة الحسكة للحصول على مياه الشرب النظيفة، في ظل لجوء أطراف نزاع، بمن في ذلك “قوات سوريا الديمقراطية” والمعارضة السورية المتحالفة مع تركيا، الى محطة المياه الرئيسية “علوك” كوسيلة ضغط سياسي، ما جعل السكّان غير قادرين على تحصيل المياه النظيفة.
وقطعت فصائل المعارضة السورية المياه عن محطّة علوك لمرّات متكرّرة طيلة السنوات الفائتة، في حين قطعت “قوات سوريا الديمقراطية” الكهرباء عن هذه المحطة، ما جعل المدنيين يعتمدون على الآبار غير النظيفة لمياه الشرب وسط تحوّل المياه الي مركز نزاع غير متناهٍ راح ضحيته السكان المدنيون.
كما وثّق التحقيق أن ضعف قدرة “الإدارة الذاتية”، بمن في ذلك هيئة الصحة ومديرية المياه، إضافةً إلى مديرية صحة الحسكة في الحكومة السورية، على مراقبة جودة المياه الموزّعة عبر الصهاريج الواردة إلى مدينة الحسكة، أدّى إلى شرب السكّان مياهاً غير صالحة للاستخدام البشري، ما أسفر في نهاية المطاف عن انتشار أمراض عدة، بما في ذلك الكوليرا والتهابات الأمعاء والالتهابات المهبليّة النسائية.
جاء ذلك بعد انقطاع المغذي الرئيسي للمدينة من المياه، واعتماد ما يقارب المليون مواطن على شرب مياه الصهاريج الخاصة، والتي لا تراعي الشروط الصحية الواجب اتباعها.
محطة “علوك” هي واحدة من أهم محطات مياه الشرب في سوريا، تقع في منطقة رأس العين في ريف الحسكة، وتغذّي مدينة الحسكة وريفها وبلدة تل تمر بمياه الشرب، بمعدّل 70 ألف متر مكعب يومياً. كما تجاوز عدد المستفيدين من المحطة نحو المليون ونصف مليون مواطن.
بدأت مشكلة قطع المياه المتعمد والمتكرر وشبه الكامل، من محطة “علوك” المغذي الرئيس لمياه الحسكة وريفها، بالتزامن مع عملية “نبع السلام” التي قامت بها تركيا والجيش الوطني المتحالف معها، في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، والسيطرة على مدينة رأس العين الحدودية، وبالتالي سيطرتها على محطة مياه علّوك، ما جعلها نقطة نزاع وورقة ضغط بين طرفي النزاع، أحدهم يسيطر على المحطّة والآخر يسيطر على خطوط الكهرباء المغذّية لها.
وعلى رغم التدخلات الأممية من منظمات إنسانية مثل اليونيسيف والصليب الأحمر الدولي، لتحييد المحطة عن النزاع السياسي، إلا أنها ومنذ أربع سنوات، شبه متوقّفة، إذ كانت تُقطع لأكثر من 40 مرة في السنة، إلى أن توقفت بشكل شبه كامل عام 2023.
لم يردّ مكتب “يونيسيف” في سوريا على أسئلتنا عبر البريد الإلكتروني، حول موقف المنظمة من استخدام محطّة “علوك” كأداة ضغط لتصفية حسابات سياسية، ولكن أظهر بحثنا أن منظّمات دولية عدة، من بينها “يونيسيف” و”الصليب الأحمر الدولي” و”المجلس النرويجي”، قدّمت دعماً ومساعدة لتأهيل بعض الآبار أو تقديم مواد تعقيم للمياه.
حاولت مديرية المياه التابعة لـ “الإدارة الذاتية”، إيجاد بدائل للمياه، إذ تم استجرار المياه من نهر الفرات، لكنها لم تُضخّ لبعض أحياء المدينة سوى مرات عدة، بسبب عدم قدرة المشروع على تغطية حاجة المدينة من المياه، وانخفاض منسوب نهر الفرات، لذا تحاول مديرية المياه إيجاد بديل، باستجرارها من ناحية عامودا الحدودية، لكن المشروع لم يرَ النور بعد.
دفعت أزمة المياه سكان مدينة الحسكة الى إيجاد بدائل لتوفيرها، مثل حفر آبار ارتوازية، والتي منعتها الإدارة الذاتية في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2022، حفاظاً على البيئة ومخزون المياه الجوفية في المدينة. ولأن الآبار هذه غير صالحة للشرب، لجأ أهالي المدينة الى شراء مياه الصهاريج الخاصة التي تأتي من آبار خارج المدينة.

صهاريج ملوّثة بديل المياه الرئيسي!
تتمّ تعبئة مياه الصهاريج الخاصة من المناهل المملوكة لأصحاب الأراضي المجاورة لها، والتي يقع معظمها في ريف مدينة الحسكة الغربي، وتوزَّع بعد ذلك للأهالي المحتاجين لها، مقابل أجر مادي يختلف بين صاحب صهريج وآخر، وغالباً ما يتّفق أصحاب الصهاريج على سعر موحد، يزداد بازدياد حاجة السكان الى المياه، وعدم وجود رقابة على التسعيرة.
يلجأ معظم أصحاب الصهاريج الخاصة الى استخدام صهاريج مخصصة لمياه الشرب، مع وجود بعض المخالفات من بعضهم الآخر، سواء من حيث جودة الصهريج التي يمكن أن تصدأ مع الوقت، أو استخدام صهاريج مخصصة للمحروقات واستبدالها بالمياه بعد محاولة تنظيفها. وما يزيد الطين بلّه، هو عدم التزام الكثير منهم، سواء من أصحاب الصهاريج أو مالكي المناهل، بعملية التعقيم أو بإضافة المواد المعقّمة الى المياه الموزعة لهم، سواء من حكومة دمشق أو الإدارة الذاتية، تجنباً لاهتراء الصهريج أو التغيّر بمذاق المياه.
مئات صهاريج المياه الخاصة تدخل إلى مدينة الحسكة يومياً من جميع مداخل المدينة، باستثناء الجنوبي منها، لتلبية حاجة السكان من المياه. وعلى رغم ارتفاع سعرها الذي يصل أحياناً الى نصف دولار (سبعة آلاف ليرة) للبرميل الواحد (ألف ليتر)، لكنها تبقى البديل الوحيد تقريباً.
لا يقلّ خزان كل عائلة عن خمسة براميل، أي بقيمة مئة ألف ليرة سورية شهرياً تقريباً، إلا أنها تُعتبر البديل الأرخص راهناً.
وبحسب الرئيس المشترك لمديرية المياه في الإدارة الذاتية، عيسى يوسف، فإن مياه الصهاريج الموزعة في أحياء مدينة الحسكة المختلفة، يتم استجرارها من 68 بئراً في بعض قرى مدينة الحسكة، تعود ملكية 52 منها الى أصحاب الأراضي المجاورة لها، وسبع مناهل لمديرية المياه في الإدارة الذاتية.
يؤكد يوسف على تعقيم المديرية بمادة الكلور جميع مناهل المياه السبعة المشرفة عليها، والواقعة في ريف مدينة الحسكة، وتوزيعها مادة الكلور المعقمة لأصحاب الآبار الخاصة، وتشديدها على ضرورة الالتزام بذلك، لكنه لا يضمن الأخيرة.
وعلى رغم وجود قسم للضابطة في مديرية المياه، بحسب يوسف، والتي أغلقت مدخل المدينة الجنوبي أمام صهاريج المياه الخاصة، بعد كشف مخالفات متعلقة باستخدام أصحابها صهاريج مخصصة لنقل المحروقات لتوزيع المياه، وعدم تعقيم المياه، إلا أنه يؤكد عدم إمكانية المديرية حالياً على مراقبة جميع المداخل وأعداد الصهاريج الكبيرة التي تدخل يومياً منها إلى مركز المدينة.
وهو ما أكدت عليه بدورها، هدية عبد الله، نائبة هيئة الصحة في الإدارة الذاتية، مشيرةً الى عدم قدرة الهيئة راهناً على مراقبة هذه الأعداد الكبيرة من الصهاريج التي تدخل يومياً إلى المدينة، باستثناء حالات الطوارئ في حال انتشر داء الكوليرا أو غيره من الأمراض، فيتم حينها التشديد والمراقبة واستقبال الحالات المرضية في المراكز التابعة لهم.
أما مدير الصحة في الحسكة، عيسى خلف، فيلفت الى تعقيم المناهل التسعة التي تشرف عليها حكومة دمشق، من الصليب والهلال الأحمر السوري، والتي يُوزَّع بعضها مجاناً للسكان.
يؤكد خلف عدم قدرة مديرية الصحة على مراقبة جميع الصهاريج التي تدخل إلى المدينة، بسبب عدم سيطرتها على القسم الأكبر منها، بما في ذلك التحقّق من صلاحيتها للشرب وفحص جودتها، وكذلك ينفي قدرتها على السيطرة على بعض الصهاريج الخاصة التي تدخل إلى المدينة.
بالتوازي، توزّع منظمات غير حكومية عاملة في مدينة الحسكة، خزانات ضخمة بسعة تصل الى ما بين الـ10 والـ25 برميلاً للشرب تقريباً في كل حارة من أحياء الحسكة المختلفة، إلّا أنّها لا توفّر المياه للجميع ويبقى شراء المياه من الخزانات خياراً لا يمكن التخلّي عنه.
يقول مصدر في جمعية اليمامة الخيرية في مدينة الحسكة، “إن المنظمات الحكومية وغير الحكومية تشدد على تعقيم هذه الخزانات، وتأتي بالمياه من مصادر معروفة، وتتأكد من صلاحيتها للشرب قبل التعبئة، هذا ونوهت الى انتشار أمراض عدة في أحياء مختلفة من المدينة، غالبيتها في الأحياء الجنوبية، بسبب الاعتماد على مياه الصهاريج الخاصة التي يأتي بعضها من مصادر غير معروفة.
ابني أصيب بالكوليرا بسبب الصهاريج
أم محمود، 33 عاماً، من قرية “سبع سكور” في ريف الحسكة، تؤكد أن رحلة علاج ابنها الذي يبلغ عشر سنوات، من مرض الكوليرا لم تكن سهلة.
تضيف أم محمود أن المياه التي تأتي بالصهاريج إلى منزلها يكون لونها مختلفاً عن المياه العادية، كما أن طعمها مختلف عما اعتادت عليه قبل انقطاع مياه “علوك”.
يؤكّد طبيب الأمراض الداخلية محمد موصللي، من مدينة القامشلي، على تأثير مياه الصهاريج الملوثة على الأمعاء، سواء التهابات معدة وأمعاء أو داء الكوليرا، بخاصة في فصل الصيف.
وفي الوقت ذاته، يربط مدير صحة الحسكة الطبيب عيسى خلف، بين مياه صهاريج المياه الملوثة، بالإصابة بمرض الكوليرا، موضحاً أنّه ليس المسبّب الوحيد لكنه رئيسي، وقد تصل بعض الحالات المصابة إلى الموت في حال كانت في مرحلة متقدّمة.
وبحسب خلف، سُجِّلت حالتا وفاة من مرض الكوليرا، بسبب تقدّم الحالة كثيراً وعدم مراجعة الطبيب قبل اشتدادها.
تُشخَّص حالة الإصابة بمرض الكوليرا باستخدام جهاز كشف خاص بها، توزّعه وزارة الصحة على قطاع الصحة في المدينة، وإن كانت الحالات غير واضحة تُرسَل عينة إلى الوزارة لتشخيص الحالة، وتعتبر هذه الطريقة متبعة من غالبية المستشفيات في المدينة، حتى الخاصة منها، بحسب خلف.
من جانب آخر، سُجل ما يقارب من 2300 حالة إصابة بالكوليرا في الفترة الواقعة بين نهاية عام 2022 ومنتصف عام 2023 بحسب موظف في إحدى المنظمات غير الحكومية (رفض الكشف عن اسمه). وعملت هذه المنظمة على مشروع في مستشفى الشعب (الوطني سابقاً) الذي تديره الإدارة الذاتية.
يوضح الموظّف أن حالات الإصابة كانت غالبيتها بين الأطفال من عمر ست أشهر إلى السبع سنوات، وكانت حالات خفيفة تراوحت بين أ و ب، ولم تسجل المنظمة أو المستشفى طيلة فترة عمله، أي حالة وفاة، وكانت الإصابات تأتي بالعشرات إلى المستشفى من أحياء الحسكة المختلفة.