أثر التغيرات

مصافي نفط بدائيّة لمتنفّذين في كردستان

العراق تضاعف الإصابات السرطانيّة

يتقلب يميناً وشمالاً في فراشه الموضوع على الأرض، ثم يمد قبضة يده اليمنى الى عنقه ويشدّها عليها، قبل أن يضرب بحركة سريعة أرضية الغرفة ويشير بأصابعه إلى قدح ماء موضوع على طاولة قريبة، ليسارع شقيقه في مناولته إياه.

بعد بضع رشفات من الماء، يقول عثمان محمد (42 عاماً) بكلمات متقطعة بالكاد تُفهم، إنه “ينزل كالتيزاب إلى حنجرتي”. يئن ميكانيكيّ السيارات المصاب بالسرطان، والذي يعيش في قضاء كلار شمال السليمانية، حيث تكثر المصافي النفطية البدائية، ويردد بعدما يسحب نفساً عميقاً محاولاً استخراج الكلمات “لم تعد لي قوة على مقاومته… هو لن يفارقني حتى يقتلني… لا مفر من ذلك”.

في النصف الثاني من العام 2018، وبشكل مفاجئ، أصيبت حنجرة عثمان بآلام غير معتادة، فأجرى على أثرها فحوصات طبية عدة تطابقت نتائجها، وأجبرت الأطباء على مواجهته بحقيقة إصابته بـ”سرطان الغدّة” من الدرجة الثانية.

هكذا انقلبت خلال أيام حياة “الأسطة عثمان” كما يُعرف في كلار، فالمرض جعل من مُصلِح السيارات المعروف في البلدة عاجزاً تماماً عن العمل، وحوّلته جلسات العلاج التي لا تنتهي إلى طريح أسرّة المستشفيات التي لا يكاد يغادرها.

أظهر التشخيص الدقيق، وجود 21 عقدة سرطانية خبيثة في عنقه، نجح في إزالة 19 منها بتدخلات جراحية معقدة، لتبقى عقدتان خبيثتان حجمهما (4-5 ملم) ما زالتا تهددان حياته، كما أخبره الأطباء.

منذ اكتشاف المرض، واصل عثمان “بإرادة قوية” رحلة العلاج الطويلة والمكلفة التي تابعها في ثلاث دول، هي تركيا وإيران والهند، لكنه كما يقول، يشعر بالإحباط مع عودته من كل رحلة علاج، حين تتراءى له سحب الدخان المتصاعدة من المصافي النفطية، والتي تشكل أحياناً سحباً تغلف منطقة سكناه بسمومها.

يقول دلير، وهو خريج جامعي يعمل سائق سيارة أجرة، رافقنا في جولة على مصافٍ نفطية في مناطق إدارة كرميان التي تتبعها كلار، إن هناك ثمانية حقول نفطية توزّع سمومها هنا. 

يضيف بصوت حاد، بينما يحكم إغلاق زجاج نافذة سيارته وهو يشير الى خيط دخان أسود يمتد في الأفق، “هذه بأدخنتها التي تملأ السماء هي من تقتلنا.. كيف يمكن أن يشفى المرضى وسط سحابات السموم التي تحيطهم؟”. يتمتم وهو يمسح العرق من على جبينه: “لم نلقَ منها غير الشر، حتى أراضينا الزراعية تضرّرت”.

عثمان ليس المصاب الوحيد في العائلة، بل هو الثامن، فإثنان من أشقائه الأصغر سناً مصابان، أحدهما يبلغ 43 عاماً والآخر 42 عاماً، بالإضافة إلى سبعة أشخاص من أبناء أشقائه وشقيقاته وأقربائه، كلهم يعيشون في البيئة القاتلة ذاتها كما يصفها: “لو أجريت فحوصات دقيقة على سكان المنطقة، لاكتشفنا حجم الكارثة التي نعيشها في ظلّ مصافٍ بدائية تبثّ سمومها بلا معالجات ليل نهار”.

ارتفاع سريع بالإصابات

في عام 2019، بلغت الإصابات الإجمالية لمرضى السرطان في إقليم كردستان 7831 حالة، وانخفضت الأرقام المسجّلة إلى 6293 خلال جائحة كورونا في عام 2020، وفقاً لوزارة الصحة في حكومة كردستان، مع تراجع زيارة المؤسسات الطبية وانخفاض حركة المركبات في الشارع.

لكن الإصابات المسجلة  في كردستان التي يُقدّر عدد سكانها بـ 6 ملايين نسمة، عادت لترتفع إلى أكثر من 8 آلاف حالة في عام 2021، و9 آلاف و61 إصابة في عام 2022، بينما شُخِّصت 9911 إصابة جديدة في العام 2023. 

بحسب المعايير الدولية، تُشخَّص 191 إصابة بالسرطان من كل 100 ألف شخص، وعلى رغم أن الإقليم يشخّص 151 إصابة من بين كل 100 ألف شخص، إلا أن تسجيل نحو 10 آلاف إصابة جديدة كل عام، ونسبة الزيادة السنوية التي لا تتوافق مع نسب زيادة السكان، يضعان الإقليم في وضع حرج، كما يقول متخصصون، في ظل قلة المستشفيات التخصصية وصعوبة الحصول على بعض العلاجات الضرورية. 

وتشير الإحصاءات الرسمية لوزارة الصحة في كردستان إلى تشخيص 81 ألفاً و62 إصابة منذ العام 2012 ولغاية العام 2023.

تقول مسؤولة السيطرة على مرض السرطان في وزارة صحة كردستان، الدكتورة جنار علي، إن المصابين بسرطان الثدي يتصدرون لائحة الحالات المسجلة في الإقليم، ومن بعده تأتي حالات الإصابة بسرطان القولون، ومن ثم سرطان الرئة، والجلد، والغدد اللمفاوية، والبروستات، واللوكيميا، وسرطان الدماغ، والشرايين، والغدة الدرقية، وسرطان الفم واللثة. 

مناطق تركز الإصابات

يؤكد أطباء إن الفرز المناطقي البسيط للمصابين يكشف عن خارطة توزيع الإصابات في كردستان، والتي تؤشر الى تمركزها في مناطق تعاني من معدلات تلوث بيئي مرتفعة نتيجة انتشار الحقول والمصافي النفطية.

للتحقّق من تلك المعلومة، ومع صعوبة الحصول على المعلومات التفصيلية للمصابين ومناطق انتشارهم، في ظل عدم توثيقها بشكل دقيق ورفض بعض المؤسسات الصحية كشفها، أخذنا عينات عشوائية للمصابين المسجلين في مستشفى “هيوا” التخصصي بالسليمانية، وهو المركز الأكبر المتخصص في معالجة السرطان في إقليم كردستان.

ضمّت العيّنة 50 مصاباً بالمرض ومن كلَي الجنسين ومن جميع مناطق كردستان، وبواقع 30 رجلاً، 20 منهم أعمارهم أقل من 45 عاماً و10 أعمارهم أكثر من 45 عاماً، مع 20 امرأة، 10 أعمارهن أقل من 40 عاماً والأخريات أكثر من 40 عاماً.

شملت العينة محافظات إقليم كردستان الثلاث (أربيل، السليمانية، دهوك) وأظهرت النتائج، أن 96 في المئة من المصابين بالسرطان توجد حقول ومصافٍ نفطية قرب مناطق سكناهم وبمسافات متفاوتة. حالهم كحال الأسطة عثمان، إذ ينشط على مسافة من منزله في منطقة رزكاري بقضاء كلار، أحد الحقول النفطية. 

محمد المخلافي

صحافي يمني حاصل على درجة الليسانس في الشريعة والقانون.