مغامرات على الشواطئ اليمنية

مأساة الصيادين وموج البحر الهائج

على امتداد الشريط الساحلي للبحر الأحمر، تتناثر صور البؤس، وملامح الاستياء، وتطفو قصص رحلات بلا عودة مع كل موج قادم نحو شواطئ خيم عليها الحزن والصمت كمقبرة بعدما كانت تكتظ بألاف الصيادين والقوارب، ويعج فيها النشاط والحيوية. وبلا هوادة، عصفت تغيرات المناخ بحياة الصيادين الطبيعية، وأضحى الصيد يتطلب المغامرة واللامبالاة لتوفير أبسط مقومات العيش والبقاء.

فقدان مُر، القارب والأحبة

لم يستوعب عبدالله خضر 26 عاما بعد، مشهد مأساة التهام الموج حياة شقيقيه أحمد ونادر، وغرق قاربهما شتاء العام 2019 وسط البحر الأحمر على مقربة من جزيرة حنيش التي تبعد 30 ميلًا من شاطئ أبي زهر في الخوخة. يتكأ عبدالله على شجر السعف جوار منزله، متأملاً الشاطئ الذي صار خاويًا سوى من الوحشة، وأصبح أشبه بمكانًا للقوارب المتهالكة، وباعثٌا للذكريات وصور الحنين.

 يتخيل بأسى، أصوات شقيقيه، وملامح وجهيهما المفزوعة والمستغيثة، آخر لحظات الآمل، والحلم بالعودة بثمار رحلة صيد دامت لأسبوع كامل، والمكوث فيها على القارب تحت لهيب الشمس وبين صقعة البرد في أحلك الليالي، وأسوأ نهارات الطقس ضراوة . رحلةُ أثقلتها أماني وأحلام العائلة، التي حمل مسؤوليتها مبكرًا عند وفاة أبيه، وتضاعفت مؤخرًا بعد غرق أخويه، وتوريثه العبء وحيدًا بلا قارب أو شبكة صيد.

يضطر الصيادون للذهاب لأماكن أعمق في البحر تخترق المياه الإقليمية، في رحلات تستغرق ساعات وأيام طويلة، للحصول على مناطق وافرة بالصيد، فمع اشتداد درجة الحرارة تتقلص امكانية الصيد في الشواطئ اليمنية، فيتحتم عليهم العثور على مناطق مناسبة للصيد ما يتطلب المجازفة، ويشكل خطرًا وتهديدًا حقيقًا لحياتهم.

يوضح عبد الملك عكيش رئيس جمعية الصيادين في الخوخة: بأن تراجع معدل الأمطار بمقدار 40% على مدى العقد الماضي، وتزايد شدة العواصف البحرية بنسبة 60%، نتيجة ارتفاع درجة الحرارة، أجبرت الصيادين على الذهاب إلى أماكن أعمق وأخطر، وهو ما فاقم حوادث غرق الصيادين وفقدان قواربهم بشكل كبير

وبلغت نسبة الصيادين الذين تأثروا بالتغييرات المناخية 80 % في السنة الماضية حسب مركز بحوث البحار اليمني، فيما تفيد احصائية لمنظمة الصيادين اليمنيين: بأن نسبة حوادث غرق الصيادين في البحر الأحمر قفزت بنسبة 30% خلال العشر سنوات الماضية.

ابن البحر وأغنيات الصبر

على بعد 20 ميلًا من ساحل القطابا في الخوخة، كان علي سعيد كداف 45 عامًا على موعدا مع فصل آخر للمغامرة، حيث وجه مختلف للبحر لم يشاهده من قبل، ومع ليالي الشتاء المعتدلة، وموج البحر الهادئ طيلة أربعة أيام كاملة، مضى كداف يترقب فرصة ملائمة لمغادرة البحر لينجو بحصيلة أربعة أيام من الصيد بمقدار تسعمائة كيلو جرام، بعدما استنزفت الظروف القاسية تمويناته، وتقرصت أمعاؤه من الجوع والعطش.

 وعلى غير العادة، كان البحر يحمل له شؤمًا بوداع حزين، كذكرى أخيرة لحكايته مع البحر طيلة عشرون عاما، ليعود إلى يابسة الحياة حاملًا خيبته وذعره، فاقدًا رأس ماله ومصدر رزقه الوحيد، بعدما واجهته عواصف شديدة على بعد 50 ميلاً من جزيرة حنيش، ظل يصارعها لساعات، غير أنها سلبته قاربه الوحيد، ونجى منها بأعجوبة، لا يتذكر منها شيئًا سوى صراخ الرفاق ونشيجهم اثر الفاجعة، التي رسمت مستقبله، وحطمت أحلامه وأماله.

حسب احصائية لرابطة الصيادين الوطنية: فأن نسبة الصيادين الذين أقعدهم الفقر والبطالة بلغت 20%، وأن أكثر من 5000 صياد في الشواطئ اليمنية لا يملكون الموارد الكافية لمواصلة مهنتهم.

عانى صيادو مدينة الخوخة كثيرًا من تزايد شدة الرياح، وارتفاع درجة الحرارة خلال العقدين الماضيين، ورغم شحة فرص العمل، ائتمنوا حياتهم على مهنة الصيد، وسيلتهم الوحيدة للبقاء، التي كبروا معها وورثوا ممارستها، لكن مع تحديات الواقع الاقتصادي، سلبتهم المهنة -الصيد- الأمان وبساطة العيش، فأصبح ممارستها تحديًا آخر بجانب الانهيار الاقتصادي وتقلص فرص العمل، إذ قادتهم تغييرات المناخ وتقلبات الطقس المباغتة إلى مفترق طرق حيث الخيارات شحيحة والمستقبل غامض.

محمد الدحان

خريج قسم الصحافة بجامعة صنعاء