عندما كنت أزور قريتي في الأعوام الماضية، كانت تأسرني ألوان الورود والنباتات العطرية بمختلف ألوانها وأحجامها وأشكالها، أما الآن فقد تغير كل شيء، بهذه الكلمات تتفتح عفاف حديثها حول اختفاء النباتات العطرية في منطقة قدس بمحافظة تعز.
تقول عفاف في حديثها ل ” climate Yemen” مستذكرةً شيئًا من الماضي: كنت أرى هذه النباتات العطرية مرتصة على حواف أسطح المنازل، وعلى نوافذها، وأمام أبوابها، كانت تفوح رائحة عطرية كلما حرك الهواء أغصان هذه النباتات. أما الآن تغير كل شيء، بعد أن غابت مظاهر الاعتناء، وأثرت التغيرات المناخية بشدة على هذه النباتات.
تضيف : كل النباتات العطرية التي كانت موجودة أمام منزلنا، التهمتها المواشي في القرية، بعد أن غادرنا إلى المدينة، والحدائق الصغيرة التي أمام المنازل، ويُطلق عليها “مجوال” وتكتظ بأنواع كثيرة من النباتات، مثل: (الريحان _ الشذاب _ الواله_ العطرية _ الأزاب _ وردة القرنفل) وغيرها لم يعد لها أثر، اليوم خدود النساء باتت فارغة من تلك المشاقر التي كانت لا تتخلى الكثير منهن عنها إلا وقت النوم.
بينما تقول حليمة سعيد خلال حديثها ل ” climate Yemen” أنها لم تعد تتذكر أسماء النباتات العطرية التي كانت تحرص والدتها على زراعتها في أوانٍ بلاستيكية وأخرى معدنية في سطح منزلهم، ” مشيرةً” إلى أن ما تتذكره الآن هو أشكال تلك النباتات وألوان ورودها ورائحتها العطرية الكثيفة التي كانت تنتشر في أنحاء المنزل”.
على إثر ذلك الزخم العطري الذي كان يتميز به منزلنا، كانت تزود أمي نساء القرية بمشاقر، تتزين بها خدودهن، وتقوم بتجهيز باقة من الورود الطبيعية، وتمنحها كهدية لأي فتاة تحتفل بزواجها؛ تقول حليمة.
ومن جهته يقول نبيل مهيوب، مزارع في ريف تعز، أن النرجس اختفى تماماً من منطقته، بعدما كان يزرع بكثرة، مرجعًا السبب إلى تراجع نسبة هطول الأمطار، وعدم ريه بطريقة منظمة تراعي درجة الحرارة، كون زيادة غمره بالماء يؤدي إلى تعفن جذوره.
ومنذ عقود اهتم الإنسان اليمني بزراعة أنواع كثيرة من النباتات العطرية، تستخدم للتداوي، وللتزين سواء للرجال أو النساء، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من التنوع البيولوجي، وموروث اليمنيين وهويتهم.
أثر التغيرات المناخية
اشتهرت اليمن بزراعة أنواع كثيرة من النباتات العطرية، ومؤخرًا أصبحت العديد منها أقرب إلى الاحتضار، والتحول إلى ذكرى من الماضي، بعد أن انقرضت أنواع كثيرة منها، وأخرى على وشك الاختفاء بسبب تقلبات المناخ، والتغير المفاجئ في درجة الحرارة، وقلة سقوط الأمطار، والاحتطاب، وغيرها من الأسباب الطبيعية التي تهدد التنوع البيولوجي في بلد كبير كاليمن.
وعن كيفية تأثر هذه النباتات بسبب تغير المناخ يتحدث المهندس الزراعي عبدالوهاب عطا ل (climate Yemen) قائلاً: تصل كثير من هذه النباتات إلى نقطة مابعد الذبول بسبب العطش جراء قلة سقوط الأمطار وشحة المياه، وارتفاع مستوى الملوحة في المياه، والتغير المفاجئ بدرجات الحرارة ارتفاعًا أو انخفاضًا.
يوضح عطا، أن هناك درجة مثلى لنجاح زراعة بذور النباتات العطرية والحفاظ عليها، حيث أن ارتفاع درجة الحرارة بشكل كبير أو انخفاضها يقضي على بعضها. ” مستطردًا” أن عوامل بشرية أخرى ساهمت في انقراض عدد من هذه النباتات، منها الرعي والتوسع العمراني في المناطق التي تتواجد فيها هذه النباتات، وشق الطرق الجديدة في مناطق تواجدها.
ولا يتوقف خطر التغير المناخي على اختفاء هذه النباتات العطرية فقط، بل على الكثير من النباتات والأشجار، التي تساعد على التكيف، وتستخدم للرعي والتطيب، والتزين، والكثير من الأمور التي اعتاد عليها اليمنيون منذ آلاف السنين.
تأثيرات الحرب والهجرة
في هذا السياق يقول راشد البكالي، وهو ناشط مجتمعي في ريف محافظة ريمة ل (climate Yemen) إن اختفاء أنواع كثيرة من النباتات العطرية يعود بشكل كبير إلى توقف الكثير من السكان عن الاهتمام بها، وانشغالهم في البحث عن مصادر دخل تدر عليهم دخلًا في ظل الوضع الاقتصادي الصعب الذي يكتوي به اليمنيون، بالإضافة إلى الانشغال بالوسائل الحديثة، كالإعلام والإنترنت، وهجرة سكان الريف إلى المدينة.
ووفقًا للبكالي، فإن من الأسباب التي تقف وراء اختفاء عدد من النباتات العطرية، وعدم الاهتمام بها، هو انتشار الملابس الحديثة في أوساط النساء على حساب الأزياء الشعبية في غالبية المناطق اليمنية. الأمر الذي أضعف الاهتمام والاعتناء بهذه النباتات والعزوف عن زراعتها، بعد أن كانت مكملةً للملبوسات التراثية.
تأثر المشهد الثقافي
حول هذا الخصوص يؤكد رئيس صالون ميون الثقافي: سام البحيري ل (climate Yemen) أن النباتات العطرية جزء من التراث الثقافي في اليمن، واختفائها قد يؤدي إلى فقدان العادات والتقاليد المرتبطة بها، خاصة أنها ساهمت في إثراء المشهد الفني والأدبي في الكثير من الأعمال الغنائية والمهاجل الشعبية.
ويرى أنه يمكن إحياء هذه النباتات والحفاظ عليها من خلال إعادة زراعتها في المناطق التي كانت تنبت فيها سابقًا، واتخاذ إجراءات لنشر الوعي لدى المجتمع بأهمية هذه النباتات، وتعليمهم آليات زراعتها، وطرق المحافظة عليها، وعدم اقتلاعها، وقطفها بطرق صحيحة تسمح بتكاثرها.
يدعو البحيري إلى الاحتفاء بهذه النباتات من خلال إقامة فعاليات مخصصة لها، والاحتفال بعيد المشاقر الذي يقام كل عام للحفاظ على الموروث الشعبي، والاهتمام بالنباتات العطرية.
وتزخر اليمن بأنواع عديدة من النباتات العطرية، التي تستخدم معظمها في التزين والتطيب كالمشاقر، وأبرزها: الحمحم بنوعيه الأبيض والأسود، والأُزَّاب، والريحان، والهينان، والداجي، والزبيدة، والعِطْرِيَة، والواله والنرجس بنوعيه الأصفر والأحمر ،الورد الشوك (الزنط)، الشَّذاب، والنعْضة (الحَبَك)، وااخوعه التي يطلق عليها في بعض المناطق “العنصف”، والنَّرْجِس، وإكليل الجبل، والقرنفل بنوعيه الأبيض والأحمر، والجوري، والفل، وغيرها.