على حافة الزمن، وجد علي غالب نفسه في الخمسينات من عمره واقفًا عند خط الحياة الفاصل بين حقبة الخصوبة والترف وأخرى من الحاجة والشح، وقد أثقلته مسؤولياته في الحياة، ورمى به الزمن في صحراء البطالة، فلم تعد عضلاته قادرة على العمل، ولا يديه تمتلك حيلة الشباب وحيويته بعد أن قضى عشرون عامًا حراثٌا في الأرض أو “بتول القرية” كما يسميه الناس، مهنته التي لطالما تفاخر بها وأسس منها منزلًا وأسرة مكونة من ثلاثة أبناء وزوجة.
تقلبات الزمن
دون مأمن وجد علي غالب حياته مليئة بالمخاوف، مستندًا على عصاه وماضيه، محاولًا انعاش ما تبقى من حياته بعدما اعتاد العزلة والفراغ لأكثر من عشرة أعوام، وبجسده النحيل ووجه المفعم بالتجاعيد والشيخوخة، يتآمل صباح كل يوم من على سطح منزله القديم، صمت وادي قريته المحشورة وسط مديرية الصلو، بعد أن أضحى شاهدًا على انحسار عطاء الطبيعة، وصارت غالبية حقولها قاحلة جدباء، وانتثرت بذور اليأس في حقول كانت يومًا تكتسي بالخضرة من كل اتجاه، وتعج بمهاجل الفلاحين وأصوات النساء.
يَهيم علي غالب صباحًا في متاهات ذكرياته، حين كان يومًا أميرًا للحقول، يتزاحم على بابه الناس مع بداية كل موسم، حيث كان يحظى بأجور مميزة؛ ويصِل صيته إلى القرى المجاورة، أينما وصل صدى صوته، يعرفه الجميع.
يتذكر أيام مجده بحسرة، وبصوتٍ تملئه التناهيد مثخنُ بالشجن والحنين يقول علي ل “climate Yemen”: أنه يحيا على ذكرياته في الحقول، وأصوات الفلاحين، وصخب الوادي، فلأنه كان مشهورًا ببراعته في الحراثة؛ كان يعيش حياة مترفة، وسعيدة، فيومياته مزدحمة وعمله في الموسم الزراعي، يكفيه لبقية العام.
ويتابع: كان الفلاح يحتاج لحراثة الأرض أربع مرات كل موسم، في المرة الأولى تكون حراثة “الصَلاب” أي الأرض الصلبة، وفي الثانية لقلب تراب الأرض، وفي المرة الثالثة لبذر الحبوب، و الرابعة تكون قبل نهاية الموسم وتسمى “الجَلاب” أي لفتح التراب حول الزَرع والغصون، فمنذ بدايات العقد الأخير، فقد الناس الاهتمام بالأرض، فصاروا يستكفون بحراثة واحدة، تكون عند البذر، وغالبيتهم تركوا حقولهم جدباء، فالأرض لم تعد تعطي كما كانت.
وكانت زراعة الحبوب تشكل نسبة 76% من ناتج الزراعة حتى العام 2000م حسب المركز الوطني للمعلومات، بينما أضحت لا تشكل 11% نسبة مساهمتها في الناتج المحلي بحسب منظمة العمل الدولية 2017م.
عمرٌ من التعب لا يجد متكأ في الشيخوخة
أخفقت مساعي علي غالب في النفور من الحديث عن الماضي كثيرًا، فرغم الانتشاء الذي يصاحب ذلك، إلا أن الماضي يبعث فيه القلق كما يقول ل”climate Yemen”: “أصبحت نادمًا جدًا على إهدار عمر طويل في مهنة لم تسعفني في لحظات العجز والحاجة، فرغم أنني أحببت المهنة، والأرض، وكنت متفانيًا ومخلصًا لهما، إلا أنني أشعر بالقلق كلما تذكرت الماضي رغم حلاوته أنذاك، فمرارة الحاضر تستدعي الندم على الماضي، فالأرض صارت في سبات، والزراعة انحدرت، والمهنة الوحيدة التي أجيدها، لم يعد لها حاضر ولا مستقبل.
حسب تقرير للبنك الدولي 2018، فقد خسر 50% من العاملين في القطاع الزراعي عملهم بسبب تراجع الانتاج الزراعي منذ بداية العقد الماضي. حيث خسر ما يقارب 2 مليون عامل عملهم، وفق إحصائية للمركز الوطني للمعلومات.
في قلب هذا الصمت الريفي، يقف علي مكتوف القدرة على مساعدة أبناءه في مواصلة مسيرتهما التعليمية، حيث أرسَل “حسام” الابن الأكبر ذو الخامسة عشر ربيعًا إلى أكناف المدينة، ليتسلم راية إعالة العائلة مبكرًا، طفله الذي كان بالأمس يلهو تحت شمس الحقول، بدأ يشق مسؤوليته في حمل أعباء الأسرة بعيدًا عن ساحات اللعب وحقول العلم، وبدأ العمل في سن ينبغي لها أن تتفتح على مقاعد الدراسة، وكانت تلمح منه بوادر الحصافة والبراعة الدراسية.
تقاعس الكثير من مزارعي الأرياف للزراعة بسبب قلة مردود الأرض وتفاوت هطول الأمطار، التي ساهمت التغييرات المناخية وارتفاع درجة الحرارة بالتأثير عليها، ما أفقد الكثير من العاملين في الزراعة مهنهم، فغالبية أبناء الأرياف هجروا القرى، وتركوا حقولهم قاحلة سعيًا في البحث عن مهن ووظائف تؤمن حياتهم ومستقبلهم، بعدما يأسوا الفلاحة، فيما بقى علي غالب شاهدًا على كل ذلك، متحسرًا على زهو الماضي من سطح منزله.